تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 174 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 174

174 : تفسير الصفحة رقم 174 من القرآن الكريم

** وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
يقول تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم} أي خلقنا وجعلنا لجهنم {كثيراً من الجن والإنس} أي هيأناهم لها وبعمل أهلها يعملون, فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء».
وفي صحيح مسلم أيضاً: من حديث عائشة بنت طلحة عن خالتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم, وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم», وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود: «ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد» وتقدم أن الله لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال قال «هؤلاء للجنة ولا أبالي, وهؤلاء للنار ولا أبالي» والأحاديث في هذا كثيرة ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها, وقوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون به} يعني ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سبباً للهداية, كما قال تعالى: {وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} الاَية, وقال تعالى: {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} هذا في حق المنافقين. وقال في حق الكافرين {صم بكم عمي فهم لا يعقلون} ولم يكونوا صماً ولا بكماً ولا عمياً إلا عن الهدى, كما قال تعالى: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} وقال {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وقال {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} وقوله تعالى: {أولئك كالأنعام} أي هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى, كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يقيتها في ظاهر الحياة الدنيا, كقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} أي ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته, ولا تفقه ما يقول. ولهذا قال في هؤلاء {بل هم أضل} أي من الدواب لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أنس بها, وإن لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء, ولأنها تفعل ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها بخلاف الكافر, فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به, ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده, ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه, ولهذا قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.

** وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً, من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه, ورواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي حمزة عن أبي الزناد به, وأخرجه الترمذي في جامعه عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب فذكر بسنده مثله, وزاد بعد قوله «يحب الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم, الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار, المتكبر الخالق البارىء المصور الغفار, القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط, الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير, الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور, الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم, الرقيب المجيب الواسع الحكيم, الودود المجيد الباعث الشهيد الحق, الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدىء المعيد, المحيي المميت, الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد, الفرد الصمد, القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الاَخر, الظاهر الباطن الوالي المتعالي, البر التواب المنتقم العفو الرؤوف, مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني, المانع الضار النافع, النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب, وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة, ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث, ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق صفوان به.
وقد رواه ابن ماجه في سننه من طريق آخر عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً فسرد الأسماء كنحو مما تقدم بزيادة ونقصان, والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه, وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك, أي أنهم جمعوها من القرآن. كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي, والله أعلم.
ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم عن عبد الرحمن عن أبيه, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن أمتك, ناصيتي بيدك ماض في حكمك, عدل في قضاؤك, أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همي, إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحاً» فقيل يا رسول الله: أفلا نتعلمها ؟ فقال «بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها» وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله, وذكر الفقيه الإمام أبو بكر العربي أحد أئمة المالكية في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم, فالله أعلم.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} قال: إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله. وقال ابن جريج عن مجاهد {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} قال اشتقوا اللات من الله, والعزى من العزيز, وقال قتادة يلحدون يشركون في أسمائه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الإلحاد التكذيب: وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد, والميل والجور والانحراف, ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر.

** وَمِمّنْ خَلَقْنَآ أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
يقول تعالى: {وممن خلقن} أي بعض الأمم {أمة} قائمة بالحق قولاً وعملاً {يهدون بالحق} يقولونه ويدعون إليه {وبه يعدلون} يعملون ويقضون, وقد جاء في الاَثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الاَية هي هذه الأمة المحمدية, قال سعيد عن قتادة في تفسير هذه الاَية: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الاَية «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل» وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» وفي رواية «حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي رواية «وهم بالشام».

** وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنّ كَيْدِي مَتِينٌ
( شايقول تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} ومعناه أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء, كما قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} ولهذا قال تعالى: {وأملي لهم} أي وسأملي لهم, أي أطول لهم ما هم فيه, {إن كيدي متين} أي قوي شديد.
أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ
يقول تعالى: {أو لم يتفكرو} هؤلاء المكذبون بآياتنا {ما بصاحبهم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {من جِنّة} أي ليس به جنون, بل هو رسول الله حقاً, دعا إلى حق {إن هو إلانذير مبين} أي ظاهر لمن كان له لب وقلب يعقل به ويعي به, كما قال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} وقال تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} يقول: إنما أطلب منكم أن تقوموا قياماً خالصاً لله ليس فيه تعصب ولا عناد {مثنى وفرادى}, أي: مجتمعين ومتفرقين, {ثم تتفكرو} في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله أبه جنون أم لا, فإنكم إذا فعلتم ذلك بان لكم وظهر أنه رسول الله حقاً وصدقاً, وقال قتادة بن دعامة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصفا فدعا قريشاً, فجعل يفخذهم فخذاً فخذاً يا بني فلان, يا بني فلان فحذرهم بأس الله ووقائع الله, فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح أو حتى أصبح, فأنزل الله تعالى: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين}.

** أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
يقول تعالى: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه في السموات والأرض, وفيما خلق من شيء فيهما, فيتدبروا ذلك ويعتبروا به, ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه, ومن فعل من لاينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له فيؤمنوا به ويصدقوا رسوله, وينيبوا إلى طاعته, ويخلعوا الأنداد والأوثان, ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. وقوله {فبأي حديث بعده يؤمنون} يقول فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه, الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدقون إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله عز وجل ؟ وقد روى الإمام أحمد: عن حسن بن موسى وعفّان بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث, كلهم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي كذا, فلما انتهينا إلى السماء السابعة فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق, وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء أكلة الربا, فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب» علي بن زيد بن جدعان له منكرات. ثم قال تعالى:)

** مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
يقول تعالى: من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد, ولو نظر لنفسه فيما نظر فإنه لا يجزي عنه شيئاً {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئ} وكما قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الاَيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}.

** يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنّكَ حَفِيّ عَنْهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى: {يسألونك عن الساعة} كما قال تعالى: {يسألك الناس عن الساعة} قيل نزلت في قريش, وقيل في نفر من اليهود, والأول أشبه لأن الاَية مكية, وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعاداً لوقوعها وتكذيباً بوجودها, كما قال تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} وقال تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد}.
وقوله {أيان مرساه} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: منتهاها أي متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة {قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو} أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله تعالى, فإنه هو الذي يجليها لوقتها أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد, لا يعلم ذلك إلا هو تعالى, ولهذا قال {ثقلت في السموات والأرض} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله {ثقلت في السموات والأرض} قال: ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم لا يعلمون, قال معمر: قال الحسن: إذا جاءت ثقلت على أهل السموات والأرض, يقول: كبرت عليهم.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى {ثقلت في السموات والأرض} قال ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة, وقال ابن جريج {ثقلت في السموات والأرض} قال: إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم, وكورت الشمس, وسيرت الجبال, وكان ما قال الله عز وجل, فذلك ثقلها, واختار ابن جرير رحمه الله أن المراد ثقل علم وقتها على أهل السموات والأرض كما قال قتادة, وهو كما قالاه كقوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض, والله أعلم.
وقال السدي: {ثقلت في السموات والأرض} يقول: خفيت في السموات والأرض, فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل {لا تأتيكم إلا بغتة} يبغتهم قيامها تأتيهم على غفلة. وقال قتادة في قوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} قضى الله أنها {لا تأتيكم إلا بغتة} قال: وذكر لنا أن نبي الله كان يقول «إن الساعة تهيج بالناس, والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه». وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان, أنبأنا شعيب, أنبأنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون, فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً, ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما, فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه, ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه, ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» وقال مسلم في صحيحه, حدثني زهير بن حرب, حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به, قال: تقوم الساعة والرجل يحلب لقحته, فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم الساعة, والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم.
وقوله {يسألونك كأنك حفي عنه} اختلف المفسرون في معناه, فقيل معناه كما قال العوفي عن ابن عباس {يسألونك كأنك حفي عنه} يقول: كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم, قال ابن عباس: لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً حفي بهم, فأوحى الله إليه إنما علمهاعنده استأثر به, فلم يطلع الله عليها ملكاً مقرباً ولا رسولاً, وقال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فقال الله عز وجل {يسألونك كأنك حفي عنه} وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وأبي مالك والسدي, وهذا قول, والصحيح عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح وغيره {يسألونك كأنك حفي عنه} قال: استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها, وكذا قال الضحاك عن ابن عباس {يسألونك كأنك حفي عنه} يقول: كأنك عالم بها لست تعلمها {قل إنما علمها عند الله}.
وقال معمر عن بعضهم: {كأنك حفي عنه} كأنك عالم بها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {كأنك حفي عنه} كأنك بها عالم وقد أخفى الله علمها على خلقه, وقرأ {إن الله عنده علم الساعة} الاَية, وهذا القول أرجح في المقام من الأول, والله أعلم, ولهذا قال {قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم, فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد, وسأله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام, ثم عن الإيمان, ثم عن الإحسان, ثم قال: فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي لست أعلم بها منك ولا أحد بها من أحد, ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله عنده علم الساعة} الاَية.
وفي رواية فسأله عن أشراط الساعة, فبين له أشراط الساعة, ثم قال «في خمس لا يعلمهن إلا الله» وقرأ هذه الاَية, وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب: صدقت, ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه, ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» وفي رواية قال «وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه» وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال: يا محمد, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هاؤم» على نحو من صوته, قال: يا محمد متى الساعة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها» قال ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام, ولكنني أحب الله ورسوله, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب» فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث, وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «المرء مع من أحب» وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين, ففيه أنه عليه السلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم, وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله وإن لم يعرفوا تعيين وقته. ولهذا قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها, قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة: متى الساعة ؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول «إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم» يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الاَخرة. ثم قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» انفرد به مسلم.
وحدثني حجاج بن الشاعر, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا سعيد بن أبي هلال المصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: متى الساعة ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة, ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزدشنوءة فقال «إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» قال أنس: ذلك الغلام من أترابي, وقال: حدثنا هارون بن عبد الله, حدثنا عفان بن مسلم, حدثنا همام, حدثنا قتادة عن أنس قال: مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» ورواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه عن عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن قتادة عن أنس, أن رجلاً من أهل البادية قال: يا رسول الله متى الساعة ؟ فذكر الحديث, وفي آخره: فمر غلام للمغيرة بن شعبة وذكره, وهذا الإطلاق في هذه الرويات محمول على التقييد بساعتكم في حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر «تسألوني عن الساعة, وإنما علمها عند الله, وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة». رواه مسلم. وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله, قال ابن عمر: وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن. وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم, أنبأنا العوام عن جبلة بن سحيم عن موثر بن عفارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى, فتذاكروا أمر الساعة ـ قال ـ فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام, فقال لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال عيسى: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عز وجل, وفيما عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج ـ قال ـ ومعي قضيبان, فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص, قال: فيهلكه الله عز وجل إذا رآني حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافراً فتعال فاقتله, قال: فيهلكهم الله عز وجل ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم, قال: فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون, فيطأون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه: قال: ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عز وجل عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم أي تنتن, قال: فينزل الله عز وجل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر. قال الإمام أحمد: قال يزيد بن هارون: ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم, ثم رجع إلى حديث هشيم, قال: ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك, فإن الساعة كالحامل المتمم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلاً أو نهاراً, ورواه ابن ماجه عن بندار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب بسنده نحوه, فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين, وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام, فتكلم على أشراطها لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذاً لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتل المسيح الدجال, ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه, فأخبر بما أعلمه الله تعالى به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا عبيد بن إياد بن لقيط, قال: سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة, فقال «علمها عند ربي عز وجل لا يجليها لوقتها إلا هو, ولكن سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها, إن بين يديها فتنة وهرجاً» قالوا: يا رسول الله الفتنة قد عرفناها فما الهرج ؟ قال «بلسان الحبشة القتل» قال «ويلقى بين الناس التناكر, فلا يكاد أحد يعرف أحداً» لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه. وقال وكيع: حدثنا ابن أبي خالد عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت {يسألونك عن الساعة أيان مرساه} الاَية, ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد به, وهذا إسناد جيد قوي, فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفى والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه, مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما «بعثت أنا والساعة كهاتين» وقرن بين أصبعيه السبابة والتي تليها, ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها, فقال {قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.